فصل: تفسير الآية رقم (33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (33):

القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [33].
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} أي: القرآن الذي هو هدى للمتقين، {وَدِينِ الْحَقِّ} أي: التوحيد الثابت الذي لا يزول {لِيُظْهِرَهُ} أي: الدين الحق {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: على سائر الأديان {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أي: أن يكون ذلك.
وجواب لو فيهما محذوف، لدلالة ما قبله عليه، وجملة: {هُوَ الَّذِي} إلخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه، ذيله بما ذيله به بعينه، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفادياً عن صورة التكرار- كذا في العناية-.
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله زوى لي الأرض، مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها».
وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قَبِيصَة أو قَبِيصَة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلَّوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة».
وأخرج أيضاً عن تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً، ويذل ذليلاً، عزّاً يعز الله به الإسلام، وذلّاً يذل الله به الكفر».
وكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية.
وأخرج أيضاً عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعز عزيزاً، ويذل ذليلاً، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها».
وأخرج أيضاً عن عدي بن حاتم قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا عدي! أسلم تسلم». فقلت: إني من أهل دين. قال: «أنا أعلم بدينك منك». فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: «نعم ألست من الرَّكوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟» قلت: بلى! قال:
«فإن هذا لا يحل لك في دينك». قال فلم يعد أن قالها، فتواضعتُ لها. قال: «إما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس، ومن لا قوة له، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة؟» قلت: لم أرها، وقد سمعت بها. قال: «فو الذي نفسي بيده! ليتمنّ الله هذا الأمر، حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز»، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: «نعم! كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده! لتكوننّ الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها.
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزّى»، فقلت: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية، إن ذلك تامّ! قال: «إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث الله ريحاً طيبةً، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم».
قال في اللباب: معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها، وهو ألا يعبد الله إلا به.
وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى.
وكذلك قال الضحاك والسدّي: لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام.
وقال الشافعي: قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها، بأن أَبَان لكل من سمعه أنه الحق وما خلفه من الأديان باطل، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب، ودين الأميين، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه.
قال: فهذا هو ظهوره على الدين كله. انتهى.
قلت: ما ذكره الشافعي هو من ظهوره، والأدق ما تقدم، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلاً.
ثم بيّن تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يطيعونهم في الأوامر والنواهي، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (34):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [34].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}
أي: بالطريق المنكر من الرّشا في الأحكام، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك.
والأكل مجاز عن الأخذ، بعلاقة العلّية والمعلولية، لأنه الغرض الأعظم منه، وفيه من التقبيح لحالهم، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: عن دين الإسلام وحكمه، واتباع الدلائل إلى ما يهوون، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل، إلى ما افتروه وحرفوه.
ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} أي: يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض {وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: الذي هو الزكاة، {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.

.تفسير الآية رقم (35):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [35].
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي: يوقد عليها {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} أي: ويقال لهم ضمّاً إلى ما هم فيه، هذا ما كنزتم {لأنْفُسِكُمْ} أي: لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبها {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: وباله، وهو ألمه وشدته بالكي.
وفي هذه الآية فوائد:
الأولى: قال بعضهم في قوله تعالى: {لَيَأْكُلُونَ} دلالة على تحريم الرشا على الباطل، وقد ورد «لعن الله الراشي والمرتشي».
وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف.
رجح الجواز ليتوصل إلى الحق، كالإستفداء.
قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرّف شيئاً لغرض الدنيا. انتهى.
الثانية: في الآية- كما قال ابن كثير- تحذير من علماء السوء وعبّاد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى.
وفي الحديث الصحيح: «لتركبن سَنَن من قبلكم حَذْوّ القذََّة بالقذَّةِ»، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»، وفي رواية: فارس والروم؟ قال: «ومَن الناس إلا هؤلاء؟». ثم أنشد لابن المبارك:
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو ** كُ، وأحبارُ سوء ورهبانُهَا

الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ} مبتدأ، والخبر: {يَكْنِزُونَ} أو منصوب تقديره: بشر الذين يكنزون.
والتعريف في الموصول للعهد والمعهود، إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون، لجري ذكر الفريقين، وإما ما هو أعم.
والأول رُوِي عن معاوية، والثاني عن السدّي، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ.
قال الزمخشري: يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله.
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظاً، ودلالةً على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. انتهى.
قال في الأنوار: ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبُر على المسلمين، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم»- رواه أبو داود والحاكم وصححه-.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدي زكاته فليس بكنز»- أخرجه الطبراني والبيهقي- أي: ليس بالكنز المتوعَّد عليه في الآية، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» ونحوه، فالمراد منها: ما لم يؤد حقها، لقوله صلى الله عليه وسلم، فيما أورده الشيخان: البخاري في تاريخه، ومسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره». انتهى.
وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية.
روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت، فكنت قريباً.
فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أُمِّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت.
ولإبن جرير في رواية، بعد قول عثمان له: تَنح قريباً، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول.
وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول: لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يعدّه لغريم.
فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة، فابعث إلى أبي ذرّ، فكتب إليه عثمان أن أقدم عليّ، فقدم.
قال ابن كثير: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته.
فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم أنزله بالربذة: وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.
وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب.
فقال: ويحك! إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.
وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين قال: فيحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نُغْضِ كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل.
قال: فوضع القوم رؤوسهم، فما رأيت أحداً منهم رجع إليه شيئاً. قال: وأدبر واتبعتُه حتى جلس إلى معاوية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئاً، إنما يجمعون الدنيا- رواه مسلم، وللبخاري نحوه-.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهباً، يمر عليّ ثلاثة أيام، وعندي منه شيء، إلا دينار أرصده لدين».
قال ابن كثير: فهذا- والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا.
أي: وما أخرجه الشيخان أيضاً عنه، قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة!» قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقارّ حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: «هم الأكثرون أموالاً، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه من خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم».
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه، أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوساً.
قال: قلت: لو ادخرته لحاجة يومك، وللضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد إليّ أن أيّما ذهب أو فضة أوكئ عليه، فهو جمر على صاحبه، حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجلّ إفراغاً.
قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي، حيث قال: هل عليّ غيرها قال: «لا، إلا أن تَطَوَّعَ». انتهى.
وبالجملة، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدّ زكاته. وقد ترجم لذلك البخاري في صحيحه فقال: باب ما أدِّي زكاته فليس بكنز.
ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعاً: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك».
- حسنه الترمذي وصححه الحاكم-.
وعن ابن عمر: كلّ ما أديت زكاته، وإن كان تحت سبع أرضين، فليس بكنز وكلّ ما لا تؤدي زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهراً على وجه الأرض.
- أورده البيهقي مرفوعاً، ثم قال: المشهور وقفه، كحديث جابر: «إذا أديت زكاة مالك، فقد أذهبت عنك شره». أخرجه الحاكم، والمرجح وقفه.
هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز.
روى البخاري في صحيحه أن أعرابياً قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} الآية، قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها، فويل له.
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال.
زاد ابن ماجة: ثم قال ابن عمر: ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً، أعلم عدده، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.
ورواه أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الإكتناز. وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به، كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة، لما فتح الله الفتوح، وقّدرت نصب الزكاة.
ويشعر أيضاً بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في تاريخه، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملاً فقال: «ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية». وأقول: إنما وجبت في التاسعة.
وأقول: هذا الحديث ضعفوه، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعاً.
قال ابن حجر في الفتح: والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}، أي: ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجباً في أول الأمر، ثم نسخ- والله أعلم-.
وفي المسند من طريق يعلى بن شَدَّاد بن أوس عن أبيه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة، ويتعلق بالأمر الأول.
وما سقناه من مذهب أبي ذر، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث.
وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال: الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم.
قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام، والوالي عليها، من قِبَل الخليفة عثمان، معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهوراً بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه.
أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس، واتخذ له حزباً من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال، لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرّاً وجهراً، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين، فنفاه إلى الربذة خوفاً من حدوث ما لا تحمد عقباه. انتهى.
ونقل ما يقرب منه ابن حجر في الفتح حيث قال: والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
الرابعة: إنما قيل: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} بضمير المؤنث، مع أن الظاهر التثنية، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزاً، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة، ولو ثنّى احتمل خلافه. وقيل: الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام، فيكون الحكم عاما، ولذا عدل فيه عن الظاهر. وتخصيصهما بالذكر، لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص.
وقيل: الضمير للفضة، واكتفى بها، لأنها أكثر، والناس إليها أحوج، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى، مع قربها لفظاً.
الخامسة: في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ} تهكم بهم، كما في قوله:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

وقيل: البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة، لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغم.
السادسة: قيل في تخصيص هذا الأعضاء الثلاثة بالكيّ دون غيرها، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية، والملابس البهية، فَلِوَجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم، كان الكيّ بجباههم، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها، ولما لبسوه على ظهورهم كويت.
وقيل: لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع، فتكلح وجوههم، وتقطب. ثم إذا كرر الطلب ازورّوا عنه وتركوه جانباً، ثم إذا ألحّ ولَّوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، وهي النهاية في الرد، والغاية في المنع، الدال على كراهية الإعطاء والبذل.
وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء، فكان ذلك سبباً لكيّ هذه الأعضاء. وقيل: لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه، فيكون كناية عن جميع البدن.
وقال القاشاني: جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح، وحب المال، وكل رذيلة لها كيّة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال، وكان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة، وهاوية الهوى، فيكوى به.
وإنما خصت هذه الأعضاء، لأن الشحّ مركوز في النفس، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات، لا من جهة العلوّ التي هي جهة استيلاء الروح، وممرّ الحقائق والأنوار، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك، فبقيت سائر الجهات، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب، كما تراه يعاب بها في الدنيا، ويجزى من هذه الجهات أيضاً، إما بأن يواجه بها جهراً فيفضح، أو يسارّ بها في جنبه، أو يغتاب بها من وراء ظهره. انتهى.
السابعة: قال أبو البقاء: {يَوْمَ} من قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} ظرف على المعنى، أي: يعذبهم في ذلك اليوم.
وقيل: تقديره عذاب يوم، وعذاب بدل من الأول، فلما حذف المضاف أقام اليوم مقامه. وقيل: التقدير اذكروا، وعليها في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل.
وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، أي: يحمى الوقود أو الجمر، وبها أي: بالكنوز. وقيل هي بمعنى فيها، أي: في جهنم وقيل: يوم ظرف لمحذوف تقديره: يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم.
ولما بيّن تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثاراً لحظوظهم، أتبعه بما جرأ عليه المشركون، في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها، وهو النسيء الآتي، وقوفاً مع شهواتهم أيضاً، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنَة بحسب أهوائهم، وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم، فقال سبحانه: